تكثر التساؤلات حول ماهية “الفنان”: كيف يتكوّن؟ هل يُولد بالفطرة أم يُصقل بالتعلّم؟ هل يقاس نجاحه بقدرته على لمس الناس، أم بالقيمة الفنية لأعماله أم بانتشارها؟ أم بشخصه وحضوره؟ مهما اختلفت الإجابات، فإن أمير عيد، الفنان والممثل والمغني الرئيسي لفرقة كايروكي، من الأسماء التي قدّمت على مرّ السنين برهانًا حيًّا لما يعني أن تكون فنانًا حقيقيًا، ليس بالمعنى المتداول، بل بذلك المعنى الأصيل الذي كدنا ننساه.

في زمنٍ باتت فيه كلمة “فنان” تُستعمل بخفّة، مُلتصقة بأسماء سرعان ما تتبدّد كفقاعات في الساحة الفنية، يظل أمير حالة استثنائية، خاض غمار الزمن وخرج منتصرًا. ما يميز فن أمير عن غيره هو رؤيته الخاصة للفن ذاته. فمنذ بداية مسيرته، أدرك أن الجوانب التقنية في الموسيقى يمكن تعلّمها مع الوقت، لكن الإحساس الفني الصادق هو ما يحتاج إلى رعاية وتنمية. يسترجع أمير ذكرياته قائلًا: “منذ اليوم الأول، لم أكن أحاول تعلم الكتابة وحدها، أو العزف والتسجيل والغناء وحسب. ما كنت أسعى إليه دائمًا هو أن أكون فنانًا، أن أتبنى عقلية الفنان. أنظر إلى الأشياء من منظور فني، لا كأدوات أستخدمها ولا من زاوية تقنية بحتة. أحب أن تحمل ملابسي لمسة فنية. حتى في اختياراتي للأفلام، اللوحات، الشعر، القصص، والأدب، كنت أحاول دائمًا أن أستكشف البعد الفني في كل شيء، أن أطور حاستي الفنية وأصقلها. أسعى دائمًا لأن أكون فنانًا في كلماتي، في رؤيتي للأشياء، وفي طريقة تعبيري عنها.”

يصف أمير المرحلة الأولى من طريقه الفني على أنها “ترجمة المشاعر والبحث عن هوية”، وبعد أن وجد الهوية، خاض فترة “التطبيق والتعلم الذاتي” بهدف تجسيد تلك الهوية الفنية وإبرازها. تخلّل البدايات الكثير من السعي نحو مجهول أدركه بنفسه، على مسار أخذ يرتسم أمامه. يوضّح أمير: “الإنسان يجد نفسه عندما يرى الطريق، حتى لو لم يكن قادرًا على السير فيه بعد، لكنه يدرك ملامحه، ويعرف ما عليه فعله للوصول إليه ليكمل المعادلة ويضع القطع الأخيرة في مكانها الصحيح.”

بالنسبة لأمير، لا يقتصر الفن على مجالاته التقليدية، بل يمتد ليشمل مختلف الأدوار والوظائف. “أنا أؤمن أن هناك فنانًا داخل كل إنسان، والدليل على ذلك أن الجميع يحب الفنون ويتابعها، سواء في السينما أو الموسيقى أو غيرها. حتى من يصمم منزله يسعى لإضفاء لمسة فنية عليه. أي شاب يهتم بمظهره قبل الخروج هو في الحقيقة يحاول أن “يفنّ”. لكن الحياة اليومية تأخذنا بعيدًا عن الفنان الكامن داخلنا، تُشغلنا عنه حتى نهمله، وأي شيء يُهمل يبدأ في التلاشي. الفطرة الفنية حاضرة لدى الجميع بنسب متفاوتة، لكنني كنت حريصًا على ألا أهمل هذا الجزء مني. سعيت للبحث عنه، ليس لأنه مفقود، بل لأنني أردت أن أعيه، أفهمه، وأحتويه. الفن ليس مجرد مهنة، بل صفة يمكن تنميتها. ليس من الضروري أن تكون فنانًا بالمعنى التقليدي حتى تمتلك نظرة فنية. قد يكون عامل ميكانيكي فنانًا في عمله، مثلما قد يكون لاعب كرة قدم فنانًا في أسلوبه، كزين الدين زيدان، بينما قد يبرع آخر بذكائه أو بسرعته.”

يأتي هذا التعمق والتأمل نتيجة خبرة امتدت لأكثر من عقدين. في عام 2003، تشكّلت فرقة كايروكي رسميًا، بعد أن كانت تُعرف باسم “بلاك ستار”، وضمت خمسة أعضاء: أمير عيد (غناء وجيتار)، شريف هواري (جيتار وصوت)، تامر هاشم (درامز)، آدم الألفي (باص جيتار)، وشريف مصطفى (أورج). كغيرها من الفرق الموسيقية الناشئة، بدأت كايروكي بأداء أغاني الكوفر في المقاهي والحانات مثل Cairo Jazz Club وAfter 8، حيث كانوا يقدمون عروضًا أسبوعية ويروّجون لحفلاتهم بملصقات في أحياء المعادي.

مع اندلاع ثورة يناير 2011، أطلقت فرقة كايروكي أغنية “صوت الحرية” قبل يوم واحد من تنحّي حسني مبارك، وسرعان ما أصبحت نشيدًا للثورة في نظر الشعب المصري، بفضل قوة اللحن والكلمات والفيديو المصاحب لها. وفي نهاية العام ذاته، أصدرت الفرقة أغنية “يا الميدان” بالتعاون مع عايدة الأيوبي، استرجاعًا لذكريات ميدان التحرير، تلتها أغنيتا “مطلوب زعيم” و”اثبت مكانك”، اللتان واصلتا خطاب الفرقة الجريء.

منذ بدايتها، لم تتوارَ فرقة كايروكي عن تأدية أغانٍ سياسية تحمل رسائل واضحة، من “صوت الحرية” وصولًا إلى “تلك قضية” عام 2023، التي تناولت مأساة الحرب على غزة وفضحت ازدواجية المعايير الغربية في القضايا الإنسانية، بكلمات كتبها الشاعر مصطفى إبراهيم. يخبرني أمير أنه كان على وشك النوم حين شعر بأنه إذا لم يؤدِّ هذه الأغنية، فلن يؤدها أحد غيره، فنهض من سريره وشاركها مع أعضاء الفرقة ليباشروا التسجيل فورًا. يروي لي عن تلك الليلة قائلًا:

“عندما يراودني الشعور بأني الوحيد القادر على تقديم أغنية ما، أو أنني لم أعبّر عن فكرة بطريقة معينة من قبل، أو أن إحساسًا معينًا اجتاحني، أندفع فورًا لتنفيذه، حتى لو كنت مستيقظًا منذ أيام”

وبالفعل، يتجلى هذا النهج في أعمال أمير وكايروكي، حيث لا تقتصر الأغاني على تكرار المواضيع المعتادة، بل تُعيد تفكيكها وبناءها بمنظور مختلف، سواء كانت عن الحب، الهوية، الذات، المخدرات، الزمن، أو حتى أكثر القضايا الاجتماعية تعقيدًا. هناك دائمًا زاوية غير متوقعة؛ بعد جديد يجعلها تبدو وكأنها المرة الأولى التي يتم فيها تناول هذه الموضوعات، لا لأنها لم تُطرح من قبل، بل لأن الطريقة التي تُروى بها تختلف تمامًا. تبدو أغانيه “أصلية”، لا تشبه غيرها، محصنة ضد التقليد والتكرار، تحمل نَفَسَ أمير الشخصي بصوته وكلماته وأسلوبه السردي الذي يدمج بين العمق والبساطة، وبين المباشر والرمزي.

لكن عندما أسأله إن كان يعتقد حقًا بوجود شيء جديد تمامًا في الفن، أو ما إذا كانت “الأصالة” ممكنة في عالم يمتلئ بالإلهام المتبادل والتأثر المتراكم، يجيب: “لا طبعًا.” ويستطرد: “أنا مؤمن بنظرية كارل يونج عن اللاوعي الجمعي، حيث يخزن اللاوعي كل ما يحيط بنا، لنقضي حياتنا محاولين فهمه. أنت تتكوّن مما مررت به، من نشأتك، مما رأيته وخُزّن بداخلك. قد تكون نغمة سمعتها يومًا ما ولّدت بداخلك مشاعر، وعندما تبتكر شيئًا جديدًا، تجد نفسك تنجذب نحو اللحن نفسه، دون أن تدرك أصل ذلك. لهذا السبب، عندما تكتمل الأغنية، تشعر أنها لم تُخلَق بل كأنها وُجدت، كأنك اكتشفتها لا اخترعتها. إذا عدنا للعصور الأولى، كان الإنسان يسمع صوت العصافير، فاستلهم الغناء، ومن هناك بدأت الألحان تتطور مثل ذرة تتكاثر، تتشابك مع غيرها، فتخلق شيئًا جديدًا.”

“كل شخص يحمل بصمة فريدة، وحين يضعها في عمله، يمنحه طابعًا أصيلًا، حتى لو كان مستوحًى من ألف مصدر. لهذا السبب، الجملة الموسيقية نفسها يمكن أن تُلهم شخصين بطريقتين مختلفتين. عندما تسمع جملة “يا حبيبي” من “ألف ليلة وليلة”، فإنها تستدعي في نفسك ذكريات تختلف تمامًا عن تلك التي أستدعيها أنا. لهذا السبب، تحمل الأغاني خصوصية شديدة، فهي ليست مجرد تجربة تُستهلك لمرة واحدة مثل فيلم أو لوحة أو قصيدة تُقرأ مرتين. الموسيقى هي الفن الوحيد الذي يمكنك الاستماع إليه ملايين المرات دون ملل، لأنها تتسلل إلى الوجدان، تتجاوز العقل إلى مناطق أعمق لا ندركها تمامًا، لذلك نعود إليها مرارًا. حسب مزاجك، حسب الطقس، حسب اللحظة، ستسمع الأغنية بطريقة مختلفة في كل مرة. الموسيقى، في جوهرها، فن غامض يسكن الإنسان. حتى في السينما، قد تجعل الموسيقى التصويرية الفيلم رائعًا دون أن تلاحظها بوعي، لكنها تعمل في العمق، تلمسك حيث لا تدري.”

لا ينبع تعليق أمير الأخير من ملاحظة وحسب، بل عن تجربة خاضها في تسجيل الموسيقى التصويرية لثلاثة من أدواره التمثيلية: فيلم “لما بنتولد” (2019)، حيث جسّد دور فنان يسعى لإثبات نفسه في عالم الغناء، ومسلسل “ريفو” (2022)، الذي تدور أحداثه في التسعينيات، ويلعب فيه دور مغني فرقة موسيقية، وهي فرقة يجسّدها أعضاء كايروكي أنفسهم، إضافة إلى الجزء الثاني من “ريفو” (2023).

وعندما سألته عن تجربته مع التمثيل، أجابني بكل صرحة: “أنا بطبعي أحب خوض التجارب، والتمثيل من المجالات التي لم أشعر بعد أنني وجدت نفسي فيها بالكامل، لكن فضولي لا يزال مستمرًا. لدي شغف لاكتشافه أكثر، وقد استهوتني فيه فكرة القدرة على عيش حياة شخص آخر، خوض تجربته، وفهمه من الداخل. شعرت أنه عالم مختلف تمامًا، أسعى إلى استكشافه والتعمق فيه. وعندما عملت على أغاني مسلسل ريفو، شعرت أن من يكتب ويغني ليس أنا، بل الشخصية التي أجسّدها. كانت تجربة ممتعة للغاية، تعلّمت منها الكثير.”

وبالفعل، ما زال الفضول قائمًا وقيد التجريب، حيث يعمل الآن على تجسيد شخصية مغنٍ شعبي في الثمانينيات ضمن فيلم يحمل اسم “أحلام سلطان المنسي”. يخبرني بحماس: “هذه التجربة مختلفة تمامًا، لأن الشخصية مختلفة عني كليًا؛ شخصية مغن شعبي لديه أسلوب غنائي وأداء معين. أشعر كأني دخلت عالمًا جديدًا تمامًا، وبصراحة فإنني مستمتع جدًا بهذه الرحلة!”

يُدرك أمير أهمية الصورة في سرد القصة عندما تستدعي الضرورة ذلك، رغم أنه ليس من أشد المعجبين بفكرة الفيديو كليب، ويشرح: “أنا شخص لا تستهويه الفيديو كليبات على الإطلاق، فأنا لا أفهم الغاية الحقيقية منها. أشعر أنها تُنفَّذ فقط لمجرد أن تُنفَّذ، لكنها لا تضيف بالضرورة قيمة فنية للأغنية.”

تغيّرت هذه المعادلة عندما عمل على “روكسي”، أول ألبوم سولو كامل له، والذي جاء نتيجة قرار أو رغبة في تقديم أعمال أكثر خصوصية، بعيدًا عن ضغط “صورة” كايروكي التي بات الجمهور يتوقع منها نمطًا معينًا. أطلق أمير الألبوم المؤلّف من خمس أغانٍ في ثلاثة فصول على يوتيوب، في تجربة أقرب إلى فيلم قصير بأجواء مستوحاة من الخمسينيات والستينيات، صُوّر بالأبيض والأسود، ويروي قصة شاب وفتاة وعلاقتهما. “عندما عملت على ‘روكسي’، أردت أن أصنع فيلمًا قصيرًا، لا مجرد فيديو كليب تقليدي. رغبت في أن يكون العمل سرديًا، يسير جنبًا إلى جنب مع إحساس الأغنية، وليس مجرد إعلان عابر يُشاهد مرة واحدة وينتهي الأمر. بالنسبة لي، أحب أن يكون العمل الفني متكاملًا، ولهذا فضّلت فكرة السرد المطوّل الذي يجعله أقرب إلى فيلم قصير. فأنا أؤمن بأن الفيديو يمكن أن يحجّم الأغنية، إذ يستقبل كل شخص الموسيقى بطريقته الخاصة، وعندما يأتي الفيديو ليقدّم تصورًا محددًا، فإنه يضيّق مساحة التخيّل ويقيد التجربة السمعية بإطار بصري واحد، وهو ما أخشاه دائمًا في الفيديو كليبات. لكن عندما عملت على ‘روكسي’، حاولت أن أقدم شيئًا مجردًا لا يفرض تصورًا معينًا على المشاهد، بل يترك له مساحة واسعة من التأويل، مما يحافظ على حرية الخيال الشخصي لكل مستمع.”

بالنظر إلى مجمل أعماله التمثيلية وأسلوبه الموسيقي، يبدو أمير عيد وكأنه ينتمي إلى حقبة زمنية أخرى، وكأن روحه قديمة تسكن جسدًا يعيش في زمن لا يشبهه. تتجلى هذه النزعة ليس فقط في موسيقاه التي تستحضر أجواء الخمسينيات وحتى الثمانينيات، بل في شخصيته وإطلالته أيضًا، التي تحمل شيئًا من رصانة الزمن الجميل ووهجه. شعرت بذلك أكثر وأنا أجلس أمامه، أستمع إلى إجاباته التي جاءت هادئة، متأنّية، ومحمّلة بشغف عميق للفن. لم يسعني سوى أن أتخيل أنني أستمع إلى تسجيل نادر لمقابلة مع أحد رموز الطرب العربي في منتصف القرن الماضي، يتحدث عن الفن على أنه رسالة نبيلة. حتى طريقته في التنقّل بين الفصحى واللهجة المصرية، مع القليل من المفردات الإنجليزية هنا وهناك، عززت هذا الشعور وكأنني أمام فنان يعيش في الحاضر، لكنه مسكون بالماضي.

بطبيعة الحال، سألته إن كان يشعر بعدم الانتماء إلى هذا العصر، فأجاب: “أجل. أشعر أن الزمن الذي أعيش فيه ليس الزمن الذي أنتمي إليه. لا أجد نفسي بسهولة في هذا العصر، لذا تجدني دائمًا أعود إلى الماضي، سواء في الأفلام أو الأغاني أو أي شيء آخر. أبحث عن شيء ينتمي إلى زمن آخر، وكأنني أفتش عن عالم ينسجم أكثر مع روحي. عندما صنعت ‘روكسي’، تخيّلت أنه يدور في الخمسينيات أو الستينيات، لأنني أحب أن أخلق عوالم خيالية تنتمي إلى أزمنة بعيدة. الزمن الحالي لا يشبهني.”

من خلال حديثنا المطوّل، بدا واضحًا أن أمير يرى العصر الحالي، والفن تحديدًا، وقد انجرف نحو السطحية في كثير من جوانبه، حيث باتت السرعة في الطرح، وهوس الأرقام والمشاهدات والأرباح، هي المعايير الحاكمة لنجاح أي عمل. لم يعد الإبداع في حد ذاته هو الغاية، بل باتت القيمة تُقاس بمدى الانتشار. لكن ما يثير استياءه أكثر هو صورة الفنان اليوم، التي يرى أنها أصبحت متشابكة مع انعدام الأمان الداخلي والفراغ النفسي، وكأن البعض يحاولون تعويض هذا الفراغ عبر امتلاك سيارات فاخرة وارتداء ساعات باهظة وإظهار أنفسهم على أنهم الأفضل والأقوى. يعبّر أمير عن رأيه في ذلك: “الشخص الممتلئ من الداخل، الذي يتقبل نفسه، لا يحتاج لإثبات شيء لأحد، ولا يطلب قبول الناس من خلال مظاهر خارجية. هو ليس بحاجة ليعلن أنه “الأفضل”. في المقابل، لو صادفت فنانًا مثل أحمد زكي، ستشعر بالانبهار، حتى لو كان يرتدي “شبشبًا”، لأن قيمته ليست في مظهره، بل في صدقه وإحساسه الحقيقي. أما من يعتمد على الاستعراض الفارغ، فلن يلتفت إليه أحد بمرور الزمن.”

وبالفعل، فإن سر استمرارية أمير وكايروكي لا يكمن فقط في موهبتهم، بل في صدقهم ومصداقيتهم، وفي صداقتهم التي تمتد منذ الطفولة، والتي منحتهم تماسكًا استثنائيًا في مواجهة العقبات. في مشهد موسيقي عربي شهد انطلاقة العديد من الفرق المستقلة والبديلة والروك خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، لم ينجُ كثيرون من اختبار الزمن، إذ اندثرت تلك الفرق واحدة تلو الأخرى،. بينما بقيت كايروكي الرقم الصعب، والأنجح من حيث التأثير والانتشار وحتى الشهرة، فباتوا اليوم يعتلون المسارح العالمية ويؤدون أمام حشودٍ تصل إلى 30 ألف متفرج، يرددون كلمات أغانيهم بصوتٍ واحد، كأنها نشيدٌ مشترك لجيلٍ وجد صوته في موسيقاهم.

يحلّ أمير لغز الفن الذي يدوم، ويختصره ببساطة قائلاً:

“الفن الذي يدوم هو الفن الصادق. الفن الذي لا يقوم على حسابات سطحية، بل ينطلق من أسئلة جوهرية: لماذا أصنع الموسيقى؟ ماذا أريد أن أقول؟ هل أفعل ذلك من أجل المال فقط؟ هل أنا صادق مع نفسي؟ لا بد للفنان أن يخوض هذه الصراعات النفسية، وعليه أن ينتصر في النهاية. لا يُخلق الفن الحقيقي من أجل المبيعات أو الأرقام، بل يولد من الصدق والبساطة ومن رغبة نبيلة في التعبير.”

ختامًا، يقول أمير: “بالنسبة لي، الأغاني هي الدوبامين. هي ما يجعلني أستمر. العملية الإبداعية نفسها، اللغز الكامن في تأليف الأغنية، ذلك الفضول والرغبة في استكشاف شيء جديد، هو ما يحركني. وأحيانًا، أشعر أنني أعبّر عن شخص يجلس الآن وحيدًا، يمرّ بلحظة ما، ويجد في كلماتي وألحاني صدى لمشاعره. هذا يمنحني شعورًا بالنُبل، ويجعلني أرغب في الاستمرار.”

تأكيدًا على كلامه، كان لافتًا بالنسبة لي خلال جلسة التصوير ملاحظة تأثير الموسيقى على أمير، على حركاته، على وضعياته، وكأن جسده يستجيب لإيقاع غير مرئي. وعندما توقفت الموسيقى فجأة بسبب نفاد بطارية المكبر الصوتي، لم يتوقف الإيقاع داخله، بل راح يدندن ويصفّر “زي العسل” لصباح. الموسيقى تجري في عروقه، وهذا ليس بمبالغة.

أما خلال المقابلة، فكان أمير يجيب بثقة وهدوء ورزانة على كل الأسئلة، بلا تأتأة أو إطالة في التفكير. في الوقت ذاته، حملت إجاباته قدرًا كبيرًا من الحكمة، مع اختيار مدروس للكلمات والتعبير عن مشاعره، كما لو أنه فكّر في كل المواضيع التي طرحناها مسبقًا. هذا ليس بالأمر العجيب، فهو شخص يمتلك قدرة استثنائية على التأمل في مناحي الحياة على أعمق المستويات، حتى يكاد لا يكون هناك موضوع أو زاوية لم يتطرق إليها من قبل. ما من فكرة طرحتها إلا ووجدته قد سبقني إليها.

تحدثنا عن فن كتابة السيناريو وصعوباته، عن الفوارق بين أساليب كتابة الأغاني لدى ليونارد كوهين وبوب ديلان، عن كارل يونج ونظرية اللاوعي الجمعي. وإن دل ذلك على شيء، فهو شغف أمير بالحياة والفن، فضوله الدائم، وسعيه المستمر لاكتشاف العالم من حوله، كما لو كان إسفنجة تمتص المعرفة، لكنها تختار بعناية ما يغذيها ويسهم في نموها.

لا يخجل من الاعتراف بمن أثّروا به وألهموه بعيدًا عن “الأنا” والتكابر. يخبرني أن أحمد عدوية هو فنانُه المفضل، وأنه كان محظوظًا بتأدية أغنية معه. يحدثني عن رياض السنباطي، وعن مارادونا وزين الدين زيدان، عن نجيب محفوظ وطه حسين، وكيف أن تساؤلاتهم الدائمة ككتّاب هي ما ساهم في إطالة عمر إبداعهم. يرى أمير أن علينا دومًا التشكيك في الأشياء، لا لنقوّضها، بل لنفهمها بعمق، نحسن رؤيتنا للأمور، ونعيد النظر فيما نظنه بديهيًا.

تبدو روح أمير وكأنها بالفعل انفلتت من قبضة الزمن، ليست مقيدةً بحاضره ولا منتميةً إليه بالكامل. لم يكن بحاجة ليخبرني بذلك، فالمسافة التي تفصله عن زمنه تتجلى بوضوح في كثير من كلمات أغانيه التي تصوّر علاقته الشائكة مع الزمن الذي “يجري سابق السنين”، كما يصفه في أغنية “أنا نجم”.

علميًا، حين نرفع أعيننا إلى السماء ليلًا، فإننا لا نرى النجوم كما هي الآن، بل كما كانت منذ سنوات، وربما قرون. يقطع ضوؤها مسافات شاسعة عبر الزمن قبل أن يصل إلينا، فنلمح أطياف أجرام قد تكون انطفأت منذ زمن أو تلاشت ببطء، لكن بريقها لا يزال يشق طريقه إلينا عبر العتمة.

كذلك هو أمير. نجم يرسل ضوءه من حقبة أخرى، ليصل في وقته المناسب. بالرغم من شعوره بعدم الانتماء إلى هذا الزمن، لا يسعني إلا أن أخالفه الرأي. لعلّه يشاركنا زمننا هذا ليذكّرنا بما نسيناه، ليعيد إلينا معاني الحب والفن والصدق في عصرٍ سريع أخلى نفسه من المعنى.

تصوير: أمينة زاهر
الإدارة الفنية: هيا الشريف
إدارة الأزياء: كيم باين
مساعدة الأزياء: لجين الجويش
تصفيف الشعر: عبد الله صلاح
تصوير الفيديو: ريم عيد / ديجيت نت
مساعد الكاميرا: منير نبيل
تصميم الديكور: عمرو حق
المنتجون التنفيذيون: عمر الجوييني، نيرفانا بيبارس
المنتج: باسم الدبور
الإنتاج: فاطمة مراد
مقابلة مع: أمير عيد
كتابة: سامي عبد الباقي